June 27, 1982

فرحنا كثيراً بنبأ استقالة ألكسندر هيغ، وزير الخارجية الأمريكية، وأوعزنا ذلك إلى أحداث لبنان وتجاوز “إسرائيل” ما كان قد تم الاتفاق عليه بينها وبين الولايات المتحدة عن طريق ألكسندر هيغ في احتلال جنوب لبنان فقط، وليس في الوصول إلى بيروت وتدميرها، بل وذهبت بعض الصحف الكويتية إلى التأكيد بأن تلك الاستقالة جاءت نتيجة الجهود الدبلوماسية الكويتية والسعودية، أو هكذا أوحى العنوان، رغم أنه بقراءة الباقي يتضح أن الجهود الدبلوماسية الكويتية كانت باتجاه اجتماع وزراء الخارجية العرب، ولا يعلم أحد ماذا سيقولون، وأي نوع من البيانات سيصدرون.

والفرحون باستقالة هيغ هم الذين يتوقعون المعجزات التي تهبط فجأة بدون توقع، فتنقذ العرب من مزيد من الذل والمهانة، وتؤجل مواجهتهم بواقعهم الأسود المرير.

وتعليقات الصحف الكويتية كلها تنصب في اتجاه ربط استقالة هيغ بأحداث لبنان، وكأن هذا سيؤدي إلى حدث جذري في سياسة الولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين، ولا غرابة في ذلك، فغياب التفكير الإستراتيجي العربي يربط مستقبل العرب – دوماً – بنوع الأشخاص الذي يحكمون البلاد العربية في وقت معين، فإذا تغير الأشخاص تتغير السياسات، وليس أوضح في ذلك من مقتل الرئيس الراحل أنور السادات وحلول الرئيس حسني مبارك محله؛ مما أدى إلى تغيير ملحوظ في السياسة المصرية، ونفس الشيء ينطبق على باقي الدول العربية، فالأشخاص في عالمنا العربي أهم من المؤسسات؛ لأن المؤسسات لا تتمتع بصفات الديمومة، إذ يمكن تغييرها أو إلغاؤها حسب مزاج الحاكم، ومن هذا المنطلق، فنحن نعتقد أن تغيير الأشخاص من شأنه أن يغيّر السياسات، ولهذا يلجأ بعض العرب إلى العنف الفردي والاغتيالات، ظناً منهم أن هذا يؤدي إلى تغيير السياسات في الغرب، مثل ما يحدث عندنا.

ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، صحيح أن تغيير الأشخاص قد يؤثر على أسلوب تطبيق السياسة الإستراتيجية للدولة في المدى القصير، ولكنه لا يؤدي إلى تغيير في السياسة الإستراتيجية نفسها، فالدول لا تكيف سياستها حسب المزاج الوقتي المتقلب مثل ما ألفه العرب، وإنما تقوم تلك السياسات على تخطيط مسبق، وتحسب للتقلبات التي تحدث بين الفينة والأخرى، والذي قرأ ترجمة لبعض المقتطفات من مذكرات موشي دايان في الأسبوع الماضي، لاحظ أن “إسرائيل” خططت لما يحدث الآن في لبنان منذ الخمسينيات وقبل بروز المقاومة الفلسطينية المسلحة، وكانت تبحث عن أي ضابط ماروني ولو برتبة صغيرة كي تستخدمه لتنفيذ مخططاتها.

إذاً؛ استقالة هيغ ليست هي المنقذ الذي ينتظره العرب، رغم أن السيد شولتز معروف عنه تعاطفه مع العرب، وارتباط مصالحه بالمصالح العربية وعلى الأخص السعودية منها.

استقالة هيغ جاءت نتيجة تراكم الخلافات داخل الإدارة الأمريكية حول سياسة الولايات المتحدة تجاه حلفائها الأوروبيين، وحلفائها في أمريكا الجنوبية، وتناقض الآراء بين مخططي ومنفذي السياسة الإستراتيجية الأمريكية، وقد ظهر هذا واضحاً في حرب فوكلاند، كما ظهر بوضوح أكثر في محاولة الولايات المتحدة فرض حصار اقتصادي على الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية ورفض أوروبا القاطع لهذا الحصار، وهي محاولة ارتبطت باسم ألكسندر هيغ شخصياً وهي خلاصة آرائه الإستراتيجية.

وليس معنى هذا أن أحداث الشرق الأوسط لا علاقة لها بالموضوع.. كلا.. ولكن أحداث لبنان كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ إن ألكسندر هيغ متحيز لـ”إسرائيل” بطريقة لا يقبلها حتى الذوق العادي، وبأسلوب كشف الولايات المتحدة أمام أصدقائها من العرب، رغم أنني لا أعتقد أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى مزيد من الكشف، أو أن هذا الكشف سيغيّر من قدرتنا على التأثير عليها، أو من نظرتها الازدرائية إلينا.

وحتى إذا أعطينا لأحداث لبنان نصيب الأسد في سقوط هيغ، فإن السؤال المطروح الآن: وماذا بعد ذلك؟ هل ستسكت “إسرائيل” على سقوط أكبر مؤيديها في الولايات المتحدة الأمريكية؟ لا شك أننا سنسمع قريباً عن العلاقات الشخصية والمصالح الشخصية التي تربط خليفة هيغ، السيد شولتز، وسوف ينبش اللوبي “الإسرائيلي” كل ماضيه وما فيه من تفاصيل لمحاولة القضاء عليه قبل حدوث أي تغيير ولو في الأسلوب، وربما اقتحمت “إسرائيل” بيروت الغربية حتى تخلق حقائق جديدة، وهي المتخصصة في خلق الحقائق، قبل تثبيت شولتز في منصبه من قبل الكونجرس الأمريكي.

ومع ذلك، فإننا نرى الضمير الإنساني يتحرك في الغرب ولو بعد فوات الأوان وسقوط آلاف الضحايا وتدمير عروسة العواصم العربية، فقد تم تشكيل لجنة من جميع الأحزاب البريطانية في مجلس العموم البريطاني للضغط من أجل إنقاذ لبنان والمقاومة الفلسطينية، وطلب رئيس فرنسا بنفسه اجتماع الأمن مرة أخرى للنظر في اتخاذ إجراءات جديدة ضد “إسرائيل”.

وقد أحبطت الولايات المتحدة مشروع القرار الفرنسي باستعمال حق “الفيتو”، وكأنها أرادت أن يفهم العالم أن استقالة هيغ لن تغيّر من أساسيات الأهداف الأمريكية الإستراتيجية، وتعرض بيغن نفسه لهجوم وانتقادات من أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأمريكي، قلَّ أن تعرض لها سياسي “إسرائيلي” أو أجنبي آخر، كل هذا بسبب شجاعة نفر من المراسلين الغربيين ذوي الضمائر الذين لا يزالون مقيمين في فندق الكومودور في الحمراء، رغم وابل القنابل المتساقط عليه عمداً من “الإسرائيليين”، وقد استطاع هؤلاء فك الحصار الإعلامي الذي فرضته “إسرائيل” على احتلالها منذ بداية الحرب، ونقلوا جزءاً من صور المأساة.

إذاً نحن لسنا بالعير ولا بالنفير.. والذي قد يوقف المذبحة النهائية هو الضمير العالمي وليس الجهد العربي، وإذا كان العرب يريدون أن يظهروا بمظهر الجدية، فإن عليهم أن يلملموا صفوفهم على الأقل بدعوة مصر لحضور اجتماع وزراء الخارجية دون إضاعة الوقت في الشكليات البيزنطية، وأن يتخذوا قراراتهم بالأغلبية وليس بالإجماع الذي لن يتحقق أبداً، فالذي أعطى “إسرائيل” حرية التصرف في لبنان هو غياب مصر، التي ينبض ضميرها الآن ويمر بإعادة حساب جذرية لسياستها تجاه “إسرائيل”، وليس أنسب من الوقت الحاضر لعودتها إلى العروبة المذبوحة، فقرارات وزراء الخارجية العرب لن تكون لها قيمة تُذكر بدون وجود وزير خارجية مصر معهم.

Comments are closed.