كلما حصل توقف بسيط في سوق الأسهم خرج تجار الشؤم ينذرون بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ويبدو أن ذاكرة هؤلاء الناس ضعيفة جداً إلى درجة نسيانهم ما حصل – ويحصل – في سوق الأسهم من بداية السبعينيات، التي تعتبر – في رأيي – بداية السوق بحجمها الحالية، فباستثناء عام 1977م حين تدخلت الحكومة لوضع حد أدنى للأسعار، نجد أن السوق تمر في فترات ارتفاع وانخفاض طبعيين، يحتمهما احتياج السوق إلى هضم ما مرت به من نشاط، وتوقفها لالتقاط الأنفاس، وأنا أعرف بعض الأذكياء يبدؤون في الشراء، حينما يخيم الهدوء على السوق، وقد دأبوا على ذلك في السنوات الأربع الماضية وحققوا من ورائه أرباحاً كبيرة.
ويبدو أن الذين يطلقون صفارات الإنذار كلما اتسع حجم التداول وكبرت السوق، ينتمون إلى فئات تخطاها الزمن، ولم تستطع مجاراة القوى الاقتصادية الجديدة التي اقتحمت السوق بعنفوان الشباب، فخلقت له ولنفسها تقاليد جديدة غير ما كان مألوفاً في السابق، وهذه القوى الاقتصادية سوف تثبت نفسها بحكم قوتها المالية.
أو أن صفارات الإنذار تلك يطلقها التجار الطارئون الجدد – وأقصد الجدد – لأن ما عرف بالتجار الطارئين في بداية السبعينيات، وحين أطلق هذا التعبير لأول مرة قد أصبحوا الآن ثابتين وليسوا بطارئين، وطرأ عليهم تجار جدد آخرون تخطُّوهم.. وهكذا الحياة دواليك.. فالوضع الكويتي يكره الجمود وعدم الحركة، وكل عصر له رجاله وتقاليده، ومن كان جامداً يتخطاه الزمن.
ومهما يكن من أمر، فتجارة الأسهم في الكويت أصبحت عنصراً أساسياً من عناصر النشاط الاقتصادي لقطاع عريض من الناس، بل إنها خلقت استملاك الأراضي، كوسيلة لتوزيع الثروة، والفرق هو استملاك الأراضي كان بالأموال العامة التي تخص الشعب كله، أما تجارة الأسهم فإنها بأموال الناس الخاصة يتم تداولها وتنقلها من ناس إلى ناس بدون تدخل الحكومة.
ومن هذا المنطلق، أعود إلى رأي سبق أن أبديته منذ زمن طويل، وزادتني الأيام اقتناعاً به، وهو أن هذا النشاط المركَّز على المضاربة لا يمكن له أن يكون هدفاً بحد ذاته، وإنما هو وسيلة، ورد فعل وانعكاس لنشاط الشركات وإنجازاتها، يظهر بصورة سعر يحدده العرض والطلب في السوق.
أما الهدف الأساسي فهو أن تكون هذه الأموال مستثمرة في مشروعات وصناعات تدرُّ مالاً حقيقياً يضاف إلى رأس المال الأصلي.
والاستثمار في الكويت، فضلاً عن كونه محدوداً بعوامل اقتصادية كثيرة، فإنه يقاسي من عدم تشجيع الدولة، وخاصة في الصناعة؛ حيث يمر سيئ الحظ الذي يريد رخصة صناعية بروتين وإجراءات تفتُّ من العضد، وتدفع به دفعاً سريعاً نحو استثمار ماله في سوق المناخ بدلاً من الانتظار سنة أو أكثر حتى يحصل على رخصة صناعية وحتى يتخطى الحواجز الإدارية والمصلحية.. وبعدها تبدأ رحلة العذاب مع البلدية والبنك الصناعي.. وإلخ، أما الزراعة فهي محدودة، رغم ظهور شركات النخيل.
إذن لا بد من الاتجاه إلى خارج الكويت.. إلى البلاد العربية.. وإلى منطقة جنوب شرق آسيا.. إلى العالم الصناعي المتقدم حيث تتطور الصناعة تطوراً مذهلاً، وحيث يركز الغرب على صناعات المستقبل الجديدة كالكمبيوتر ووسائل الاتصال وعلوم الفضاء وعلوم الوراثة وغيرها، تاركاً الصناعات الملوثة للبيئة كالحديد والصلب والكيماويات والسيارات لنا وللعالم الثالث بشكل عام.
وهذا الاتجاه يحتاج إلى رجال يتولون أموره، ويقودونه، ويستطيعون مواجهة أمثالهم من رجال المال والصناعة في الدول الأخرى ومقارعتهم الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق، ويكونون على مقدرة كافية من التعليم وقوة الشخصية والنباهة بحيث يقودون دفة الاستثمار قيادة مقتدرة.
ولا يوجد سبيل آخر أمام رأس المال الكويتي مهما حاول تأجيل هذا السبيل.. فكل ما يحدث الآن ما هو إلا محاولات التفاف بهدف تفادي مواجهة الحقيقة؛ وهي أن الكويت لديها فائض مالي لا تستطيع استيعابه محلياً، ولا بد له من توظيف مجزٍ خارجياً.
وهذا الموضوع ليس بالجديد، وسبق طرقه في مجالات مختلفة، ولكن ما أطرحه الآن هو أن تتجاوب التشريعات الكويتية مع هذه الحقيقة الواضحة، فلا تضع عقبات أمام مزاولة رأس المال الكويتي لنشاط كويتي إذا رغب في العودة ولو لفترة قصيرة.. أي بعبارة أخرى يجب السماح لما يخلفه الكويتيون من شركات وبنوك ومؤسسات صناعية ومالية وغيرها في البلاد العربية أولاً ثم في البلاد الأجنبية، أن تمارس نشاطاً حراً في السوق الكويتية إذا كانت نسبة ملكية الكويتيين فيها لا تقل عن 50%، وهذا بالطبع يتطلب التخلي عن التفكير المتقوقع الذي يريد حماية احتكار القلة، الموجود الآن في بعض القطاعات الأساسية كالبنوك، كما يتطلب تفكيراً متحرراً لا يحد من تملك العرب أو حتى الأجانب لأسهم الشركات ضمن حدود معروفة، أو حتى ضمن شكل قانوني محدد، يضمن عدم خروج السيطرة من أيدي الكويتيين.
والذي تمر به السوق الكويتية الآن يتطلب تفكيراً متجدداً، ونظرة شمولية، وارتفاعاً إلى المستوى الذي وصل إليه القطاع الخاص الكويتي في حنكته، ومهارته، ومرونته، وسرعة حركته.